الخميس، 12 مايو 2011

العلمانية هل هى حقا فصلا للدين عن الدولة ( 7 )

وقفنا فى الجزء الماضى عند شرح " نظرية الحق الالهي " . أو( مذهب آباء الكنيسة ) . وقلنا فى معناها أن الحكم لله وحده وأنه يختار لادائه في الارض من يشاء ، فيصبح حاكماً بأمر الله . والمميز لها أن الاختيار يتم مباشرة لشخص بعينه على وجه يجعله قريباً من معنى " الانتقاء " . ومن هنا جاءت كلمة " سيادة " في اللغات ذات الاصل اللاتيني إذ أنها تعني في أصلها " المختار من الله " ولم تدخل هذه الكلمة لغة القانون إلا في القرن السادس عشر .
وقد قيض لهذه النظرية رجل عبقري حاول أن يصوغها على وجه يوفق بين مضمونها اللاهوتي ووظيفتها في مساندة السلطة البابوية . ذلك هو القديس توما الاكويني الذي كان مستشاراً فكرياً للبابا .
يقسم توما الاكويني مصدر السلطة الى ثلاثة أنواع : النوع الاول ، هو الارادة الالهية المحيطة بكل شيء ، والنوع الثاني ، هو القانون الطبيعي الذي أودعته الارادة الالهية في ضمائر البشر فيجعلهم يميزون بين الطيب والخبيث ، وأخيرا ، النوع الوضعي أو البشري ، وهو تلك القواعد التي يضعها الناس في المجالات الخاصة . بالبناء على هذا التقويم يعود توما الاكويني فيفرق بين ثلاثة أوجه للسلطة : أولها ، الجوهر أو المبدأ ، وهو ارادة الله وتؤديه الكنيسة ؛ والثاني الشكل أو الاسلوب ( ملكية أو ارستقراطية أو ديموقراطية ) ، وهذه يميز بينها ويختارها الحكام ؛ والثالث الممارسة أو التنفيذ ، وهذه يؤديها البشر . هكذا أراد توما الاكويني أن يلائم بين الحق الالهي - مصدر سلطة الكنيسة - وبين صور ممارسة السلطة وأشكال الحكم ، مع الاحتفاظ بمصدر الحق في الحكم وسند شرعيته ، أو جوهر السلطة ومبدئها ، للارادة الالهية ، لتبقى اليد العليا للكنيسة . بعد توما الاكويني يأتي جيل الروماني الذي كان تلميذاً له في جامعة باريس ، واستحق من بعده لقب " أكثر المفكرين عمقا " ( 1245 - 1316 ) ليكون اكثر صراحة فينطلق من أن الله موجود في كل شيء بما في ذلك عقل الانسان وحواسه لينتهي إلى القول بأن البابا - ممثل الله في الأرض - حق السلطة على كل واحد وكل شيء في الأرض .
وعلى الجبهة الأخرى من الميدان الفكري الذي يعكس ويغذي الصراع بين الكنيسة " والدولة " يبدع أنصار الملوك نظرية " العناية الالهية " ( او نظرية الملكية المقدسة ) التي تبقي على السماء مصدراً للسلطة ، ولكنها تنكر احتكار البابا للقيام على إرادة الله في الأرض لتفسح مكاناً للملوك . فتذهب نظرية العناية الالهية إلى أن إرادة الله توجه شؤون الناس وعقولهم وإرادتهم على وجه غير مباشر إلى أن تصبح السلطة في يد واحد منهم. فهو لايكسبها بجهده ولايستحقها لأمر خاص به ، ولايتلقاها من أحد من الناس ، ولا من الله ايضا ، ولكن عناية الله هي التي وضعته في موضعه . مادام الملك ملكاً فليس من حق أحد أن يحد من سلطته لأن ذلك سيكون تحديا لارادة السماء حتى لو لم يعرف أحد كيف أدت عناية السماء إلى هذه النتيجة . وفي هذا يقول جان دي باري في كتابه السلطة الملكية والسلطة البابوية ( 1302 ) ان الحياة تنقسم إلى قسمين متميزين ومنفصلين ، قسم مادي وقسم روحي ، وإن اله يختار لكل منهما من يتولاه ، فاختار الكنيسة للحكم الدنيوي ، فالملك قد تلقى سلطته بدون وساطة من الكنيسة .
فلما جاءت مرحلة الاصلاح الديني الذي بدأ دعوته الالماني مارتن لوثر عام 1520 والسويسري جان كالفن عام 1536 كان تمرداً على احتكار البابا السلطة الدينية ووضع أحكامها ، وانتصاراً لحرية الكنائس " الوطنية " في الاجتهاد . وكان طبيعيا أن تكتسب " الدولة " في البلاد الكاثوليكية والبروتستنتية جميعا من القوة النسبية بقدر ما أضعفت حركة الاصلاح من السلطة البابوية نسبيا . غير أن الصراع بين الكنيسة  "الوطنية " " والدولة " لم ينته ،أولم يهدأ ، إلا بسيطرة إحداهما على الأخرى . لقد كان مارتن لوثر وجان كالفن ، كلاهما ، من أشد القائلين بالطاعة المطلقة للحكام المدنيين ( الملوك والأمراء ) حتى ولو كانوا طغاة . ولكن كل منهما عالج العلاقة بين الكنيسة والدولة علاجاً مختلفاً . أما مارتن لوثر فقد أثمرت دعوته تبعية الكنيسة " للدولة " . وفي ظل سيادة مذهبه ( البروتستنتية ) في انجلترا استطاع هنري الثامن أن يقطع علاقة الكنيسة الانكليزية مع البابا ، وأن يعلن نفسه ، وهو ملك ، رأساً للكنيسة ( 1534) . وأما جان كالفن فقد اثمرت دعوته تبعية " الدولة" للكنيسة ، حتى قيل إنه لم يحدث أن وصل أيّ بابا في القرون الوسطى ، لانظريا ولاعمليا ، إلى تأكيد سيادة الكنيسة كما فعل كالفن .
وقد استمر ذلك الصراع وانتقل إلى أمريكا ، حيث دار هناك بين كنائس المهاجرين وبين الدولة الناشئة . وهناك - في أمريكا - سيتضح بجلاء أن الصراع لم يكن يدور حول المبدأ المسيحي العلماني : الفصل بين نشاط الكنيسة ونشاط " الدولة " ولكن بين أطماع المؤسستين كل منهما يريد أن تسود الأخرى متجاوزة بذلك حدودها . فقد كان المذهب البروتستنتي سائداً في انجلترا كما ذكرنا ، وكان من شأن ذلك أن يسيطر الملوك على الكنيسة . وقد حدث في عهد الملكة اليزابيت الأولى - وهي رأس الكنيسة في انجلترا - أن فرضت على رعاياها البروتستنت فروضاً دينية اعتبرها الجميع بدّعاً لاأساس لها من الدين ( عام 1558 ) ، فرضي من رضي ، وتمرد القادرون الذين نصّبوا من أنفسهم دعاة لتطهير الدين من البدع فعرفوا باسم المطهرين ( البيورتان ) وأشهروا في وجه " الدولة " المبدأ : فصل الكنيسة عن " الدولة " . وما زالوا يحرّضون الناس على تبنّي موقفهم حتى كاد يعقد لهم النصر . فلما أن ظنوا أنهم منتصرون بدأوا في " تناسي " مبدأهم والتدبير للاستيلاء على "الدولة" ووضعها موضع التبعية للكنيسة فلما لم يفلح تدبيرهم استحقوا اضطهاد الدولة " الأقوى " مما دفع بجموع منهم إلى الهجرة إلى أمريكا خلال القرن السابع عشر حيث استقروا في نيوانجلند . وهناك كانوا قوة غالبة بالنسبة إلى السلطة المدنية ففرضوا مذهبهم " بالقوة " وسيطرت كنيستهم على كل سلطة في بليموث وخليج ماساشوستس وفي كل المستعمرات ماعدا رود ايلند وبنسلفانيا .
وظل الأمر كذلك إلى أن جاء عام 1840 يحمل إلى أمريكا أفواجا كثيفة من المهاجرين " الكاثوليك " الفارّين - بدورهم - من الاضطهاد في القارة الاوروبية . فخاف رؤساء الكنيسة البروتستنتية من أن تشاركهم الكنيسة الكاثوليكية امتيازاتهم وسلطاتهم في مواجهة الدولة ، فعادوا إلى مبدأ الفصل بين الكنيسة " والدولة " يرفعون راياته - هذه المرة - في مواجهة المنافسين الجدد الكاثوليك تساندهم مجموعة من المفكرين مازالوا يعملون جميعا حتى أدخلوا مبدأ الفصل بين الكنيسة " والدولة " في صلب الدستور الأمريكي . ولكن أي فصل ؟ …إنه الفصل الذي يحرم على " الدولة " أن تتدخل في شؤون الدين . فلما قويت شوكة " الدولة " في القرن العشرين أخذت بيدها زمام تطبيق المبدأ على الوجه الذي يتفق مع موازين القوة الجديدة ، يحرم على الكنيسة أن تتدخل في شؤون الدولة . وبناء عليه حرم القضاء الامريكي التعليم الديني في المدارس الخاصة والعامة معا . وما يزال الكاثوليك والبروتستنت جميعا يعتقدون أن هذا التأويل للنص الدستوري مقصود به الكيد للدين عامة لمصلحة تيارات لادينية نامية في الولايات المتحدة الأمريكية . ذلك لأن التعديل الدستوري الرابع عشر - كما يقولون  - كان مقصوداً به حماية الدين من الدولة وليس حماية الدولة من الدين . وهو الصحيح .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إترك تعليقك هنا