فى الواقع أن حركة التنوير ذاتها لم تكن إلا امتداداً لما يسمى في تاريخ أوروبا ثورة الاصلاح الديني التي اندلعت في أوائل القرن السادس عشر وقادها مارتن لوثر الألماني الذي بدأ دعوته عام 1520 وجان كالفن السويسري الذي بدأ دعوته عام 1536 . ولقد كان الاصلاح الديني ثورة ضد احتكار الكنيسة في روما تفسير الانجيل ومدّ قدسيته إلى المذهب الكاثوليكي ليصبح (( المذهب هو الدين )) . ولم يلبث الاصلاح الديني أن تطور ليصبح ثورة ضد تكبيل العقل بقيود الوحي كما يصوغه مذهب الكنيسة فيما سمّي بحركة التنوير.ولم تلبث حركة التنوير أن تطورت إلى ثورة سياسية ضد استبداد الكنيسة بالسلطة فكانت العلمانية .
لقد كانت كلها مراحل حركة ثورية واحدة استمرت أكثر من قرنين ضد مؤسسة تحتكر العلم والفهم والحكم دون الناس أجمعين ( الكنيسة ) وتفرض علمها وفهمها وحكمها على الناس باسم الدين . فكانت هي الدين حين يكفر الناس بالدين أو يعارضونه أو يناقضونه ، ولم يكن الدين هو المسيحية ( وإنما مايقره رجال الكنيسة ) وقد تجسد هذا الموقف في المذهب " الرّباني " الذي روّج له فولتير ( 1694 - 1778 ) فراج في أوروبا وانتشر . والمذهب الرباني يؤمن بالله وينكر الوحي ويثق بالعقل بل ان تلك الكنيسة قد كانت سبباً في شيوع الهرطقة على مدى ثلاثة قرون سابقة على الثورة الفرنسية . وإذا كان كبير الماديين الملحدين البارون دي هلباخ ( 1723 - 1789 ) قد قال ان الدين هو السبب الأساسي للتعاسة! فإنه كان يردد ماقاله من قبله أحد كبار كهنة الكنيسة ذاتها قال الكاردينال ريجيتا لدبول في مجلس الكرادلة الذي انعقد عام 1546 اننا نحن المسؤولون عن التعاسة التي حلت من انتشار الهرطقة وانحدار الأخلاق المسيحية،لأننا فشلنا في أن نزرع الحقل الذي سلم الينا اننا كالملح الذي فقد طعمه
يخطيء اذن الذين يظنون أن العلمانية مذهب فكري مضاد للدين ويخطيء الذين يظنون أن العلمانية قد وفدت إلينا دعوة إلى الالحاد لتنتزع من قلوبنا الايمان ولقد أضل هذا الخطأ كثيرين فرموها إذ رموها حيث ظنوا موضع الخطورة فيها على الدين . نقول " خطأ " ونقول " ظنا " لأننا لانريد أن نسبق أسباب اليقين وقد نعلم حينئذ أن ثمة عدواناً منظماً قد أراد أن يلهي ضحاياه عن دفع خطر واقعيّ يهدد حياتهم فلفتهم إلى خطر وهمي يهدد ايمانهم فأوحى إليهم بأن العلمانية نزعة إلحادية معارضة أو مناقضة للدين عامة فغاب عن الادراك العام مافي العلمانية من مناقضة ومناهضة ( للاسلام ) خاصة . ولن ندرك ماغاب بدون معرفة كاملة بحقيقة العلمانية سنجتهد مااستطعنا في كشف حقيقتها لمن لايعرفون ونرجو ألاّ يندهش أحد منهم حينما يدرك أن أصل العلمانية بمعنى الفصل بين الدين والدولة التي يوحى إلينا بأنها مناقضة للدين مذهب ديني في المسيحية نشأ معها فرضاً من فروضها ثم استمر ركناً من أركانها وجزءاً من تراثها اللاهوتي لم يدخل العقل البشري إلا بها إذ لم يكن معروفاً في أي دين من قبل ولم ينتقل منها إلى أيّ دين من بعد . وسنقوم بالبحث فى تكملة موضوعنا عن العلمانية فى الأديان السماوية هل هى موجودة وتحت أى ظرف ولأى سبب إلتصقت أو إصطدمت العلمانية بالدين ( للحديث بقية )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إترك تعليقك هنا