" العلمانية " نزعة ترى أو تعمل على مايقال له " الفصل بين الدين والدولة " ولما كانت كلمة الدين غيرذات دلالة محددة على دين معين بل تطلق تجريداً على كل ماهو دين أو كل ما أسماه اصحابه أو منكروه ديناًبلا تفرقة ، ولما كانت كلمة " الدولة " قد اختلفت دلالتها على مدى العصور فأطلقت على الأسر الحاكمة وأطلقت على الحكم ذاته ثم هي في العصر الحديث تطلق على مجموعة من العناصر المادية والمعنوية والبشرية تؤلف معاً واقعاً معترفاً به ( سنعني بها السلطة في هذا الجزء من الحديث إلى أن نعودإليها تفصيلاً ) فليس ثمة غرابة في ان تكون كلمة " العلمانية " من أكثر الكلمات غموضاً ومع ذلك فهي كلمة رائجة رواجاً كبيراً في الأدب السياسي .
أما على مستوى الكلام المرسل أو الدعائي فقد يكون استعمالها من لوازم الاستعراض الذي يريد به بعض المثقفين الايحاء بأنهم عالمون أو علماءأو أنهم ينتهجون العلم في التفكير أو التدبير أو الحركة ، أو من لوازم " المغالطة والتدليس" الذي يريد به بعض الهاربين من المشكلات الايحاء بأن حركة الهرب تكتيك محسوب ( الهروب من فلسطين عربية إلى فلسطين علمانية ) .
ولعل مرجع الظن بأن كلمة " علمانية " قادرة على الايحاء بما يرضي غرور مستعمليها أو احلامهم ما يدخل في تركيبها من حروف كلمة " العلم " حتى لتكاد تنبيء بأنها مشتقة منها ، أو ذات صلة وثيقة بالعلم ، وهي ليست كذلك . لاعلاقة البتًة بين " العلمانية " نزعة وبين " العلم " منهاجاً والأصل اللاتيني للترجمة العربية ينفي مثل هذه الصلة .
أكثر من هذا غرابة ومدعاة لغموض دلالة كلمة العلمانية ما يوحي به استعمالها للتعبير عن نزعة " الفصل بين الدين والدولة" من أنها معارضة أو مناقضة للدين وقد ساعد على شيوع وهم التناقض بين العلمانية والدين انها كانت ثمرة التيار الفكري العقائدي الجارف الذي أخرج أوروبا من ظلمات قرونها الوسطى وعرف باسم حركة التنوير . وقادته الفكريين كانوا ملحدين : هوجو جروتيوس ( 1583 -1645 ) وتومس هوبز ( 1588 -1679)وجون لوك ( 1632 - 1704 ) وديفيد هيوم ( 1711 - 1776 ) وجان جاك روسو ( 1712 - 1778 ) وجيرمي بنتام ( 1748 - 1832 ) وستيوارت مل ( 1806 - 1873 ) وهربرت سبنسر ( 1820 - 1903 ). . . الخ .
هذا في حين أن جوهر حركة التنوير الأوروبي هو الثقة في مقدرة العقل على ادراك الحقيقة . وهو جوهر نثرت بذوره في أوروبا جماعة من الدارسين يسمونهم جملة " المدرسة الرشيدية " نسبة الى الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد ( 1126 - 1198 ) الذي نقلوا عنه فعرف الأوروبيون عن طريقه الفيلسوف الاغريقي أرسطو ، وفلسفته وشرحها . ( ترجم الاسكتلندي ميخائيل سكوت ( 1175 - 1234 ) اغلب اعمال ابن رشد إلى اللاتينية في الفترة مابين ( 1217 و1230 ) . وإذا كان الأوروبيون قد شاءوا - لأسباب لاعلاقة لها بالايمان أوالكفر أو الفلسفة - أن ينكروا ابن رشد حامل مشكاة النور إلى اوروبا المظلمة فإنه من غير المنكور أن من بين فلاسفة التنوير وقادته الفكريين فلاسفة عباقرة دافعوا عن الدين بسلاح العقل وآمنوا ، ليستطيعوا أن يفهموا كما قال من قبل سان انسلم ( 1033 - 1109 ) . منهم ديكارت ( 1596 - 1650 ) وليبنز ( 1646 -1716) وجورج باركلي ( 1685 - 1753 ) وجوزيف بتلر ( 1692 - 1752 ) وكانت ( 1724 - 1804) وهيغل ( 1770 - 1831 ) وهيرمان لوتز ( 1817 - 1881 ) . . . الخ .
والواقع أن حركة التنوير ذاتها لم تكن إلا امتداداً لما يسمى في تاريخ أوروبا ثورة الاصلاح الديني التي اندلعت في أوائل القرن السادس عشر وقادها مارتن لوثر الألماني الذي بدأ دعوته عام 1520 ، وجان كالفن السويسري الذي بدأ دعوته عام 1536 . ولقد كان الاصلاح الديني ثورة ضد احتكار الكنيسة في روما تفسير الانجيل ومدّ قدسيته إلى المذهب الكاثوليكي ، ليصبح المذهب هو الدين . ولم يلبث الاصلاح الديني أن تطور ليصبح ثورة ضد تكبيل العقل بقيود الوحي كما يصوغه مذهب الكنيسة فيما سمّي بحركة التنوير ، ولم تلبث حركة التنوير أن تطورت إلى ثورة سياسية ضد استبداد الكنيسة بالسلطة ، فكانت العلمانية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إترك تعليقك هنا